معرفة

محمد جلال كشك يكتب: كفاح هادف

منذ أواخر العهد العثماني، برزت محاولات لتهميش اللغة العربية، فمن الذي قاد مخطط تصفيتها؟ وكيف جرى استهدافها؟ ولماذا تبنى سلامة موسى الدعوة إلى العامية على حساب الفصحى؟

future صورة تعبيرية: تعبر عن التخطيط لمحو الهوية الهربية

«نشر هذا المقال لأول مرة في مجلة الرسالة في 26 نوفمبر 1964»

في كلُّ لغةٍ ألفاظٌ تندثر، وأخرى تكتسب مفاهيم حديثة؛ مثلاً ألفاظ: خطة وتخطيط، ومُخَطَّط؛ فقد كثر استعمالها بمفهوم جديد يختلف عن تفاسيرها في القواميس العربية.

ومن الظواهر الجديرة بالتأمل أن كلمة مُخَطَّط تقترن في أذهاننا بالشيء الشرير… فنحن نقول: المخطط الاستعماري، أو الصهيوني، أو الرجعي.

وقد يكون لذلك أكثر من تفسير… ولكني أحب أن أقف عند هذه الخاطرة:

«لقد كان أعداؤنا هم الأسبق إلى التخطيط، بينما كنا نحن، لحسن نوايانا وطيبة قلوبنا وأيضًا سذاجتنا وعدم جديتنا، نكتفي بردِّ الفعل أو مواجهة الطعنة في حينها، دون أن تمتد أبصارنا إلى اليد التي تطعن، والرأس الذي يدبر الطعنة ويختار لها المقتل. بل كان بعضنا يبتسم في دهشة استنكارية إذا ما حدثوه عن مخطط ضد العروبة والإسلام».

مخطط يُنفَّذ عبر مئات السنين؛ كدأْب الجرذان تقرض سدَّ مأرب العظيم، أو كدابَّة الأرض تأكل منسأة سليمان الحكيم… وأغلب الظن أن بعضًا من المعاصرين يذكرون، في مرارة، أنهم ابتسموا عندما حدثهم العارفون عن مخطط صهيوني يُنفَّذ من أيام السلطان عبد الحميد لاقتطاع قطعة حية من الجسم العربي… حتى رأوا السكين بأعينهم تقطع اللحم الحي.

مخطط تصفية اللغة العربية

على أية حال لقد انتهت هذه المرحلة.. وعرفنا بيقين أننا نواجه مخططًا واسعًا جنوده الأساطيل والمستشرقون، والدبابات والمقالات.. مخططًا عمره قرون، وما زال يُنفَّذ، مخططًا يؤمن أن العدو الأكبر هو الإسلام وأن قوة الإسلام وعزته في العرب والعربية.

ونحن أيضًا وعينا أهمية التخطيط، وأصبحت لنا أكثر من خطة وليس مصادفة أن ثورتنا العربية هي أول من استخدم تعبير الخطة في معناه الحديث، على أوسع نطاق.. والعمل وفقًا لِمُخَطَّط يحتم علينا أن نقيس كل أفعالنا وأن ندرس كل تصرفاتنا لا على جيلنا، بل وعبر عشرات القرون فهكذا يفعل الأعداء.

هذا الحديث ساقني إليه صدور الطبعة الرابعة من كتاب «البلاغة العصرية هذا الحديث واللغة العربية » عن سلامة موسى للنشر والتوزيع.. تراث من الكفاح الهادف ولقد استوقفتني سنوات صدور الطبعات الأربع: ١٩٤٥، ١٩٥٣، ١٩٥٨، ١٩٦٤إنها تستحق التأمل حقًا.

في ١٩٤٥ كانت نهاية الحرب العالمية الثانية وبدأت الشعوب كلها تتحرك من أجل تحديد مصيرها، تتحسس الأرض من تحتها، لتتثبت من جذورها استعدادًا لمطاولة السماء، ولفرض وجودها في هذا العالم المليء بالاحتمالات، والذي كانت تتجاذبه قوتان: القوميات الناهضة، والاستعمار المنهار، الذي يتشبث بوجوده الكريه، ويفرض حضارته الباغية بالحديد والنار.

وكانت أمتنا العربية تقف لحظة حاسمة في تاريخها، فما كاد الصوت العربي يرتفع مطالبًا بحقه في الحرية والاستقلال، في ظل انتصار معسكر الديموقراطية، كما كانوا يسمونه، حتى انهال عليها الرصاص بوحشية تعرفها في حضارة الغرب المتمدين، وسقط في ليلة واحدة ٦٠ ألف شهيد جزائري، وضربت بيروت ودمشق بالمدافع، وفتحت السجون للأحرار في مصر والعراق.. وخرج المخطط الصهيوني في فلسطين من مرحلة التسلل إلى مرحلة الغزو العلني وصدرت الطبعة الأولى من «البلاغة العصرية واللغة العربية ».

وفي ١٩٥٣.. كان أعداء العروبة قد أفاقوا على إمكانيات الثورة المصرية، وبدأ الالتفاف حولها، في محاولة لخنقها بقنابل الصوت والدخان، ومحاولات تضليلها بإغراقها في الشعارات والفلسفات لتُنتَزَع من جذورها العربية فتُطَوِّحُها أعاصير الاستعمار..

قطع لسان العرب

وقد أثبتت تجارب التاريخ أن رعب الاستعمار الأكبر يكمن في تحرر مصر لأن ذلك بعث القومية العربية، وكُتَّاب الغرب أنفسهم يقولون إن عزة العرب تعني قوة الإسلام.وكانت الثورة الجزائرية تختمر، والمغرب العربي كله يضطرم بالثورة: ثورة عربية ضد محاولة الفرنسة أو التغريب.. ضد محاولة إبادة الكيان العربي بقطع لسان العرب، بلويه حتى ينطق بالفرنسية وصدرت الطبعة الثانية من «البلاغة العصرية واللغة العربية»..

وفي ١٩٥٨... كانت الثورة الجزائرية تمر بأعنف لحظاتها.. بعد أن فضحت كل دعاوى وحدة الكفاح المشترك بين الشعب الجزائري والشغيلة الفرنسيين.. وارتفع لواء القومية العربية الإسلامية ضد دعاة الفرنسة، بل اعتبر المثقفون الجزائريون أنفسهم في منفى اللغة الفرنسية أو سجناء اللسان الفرنسي.. وكافحوا واستشهدوا للعودة إلى لسانهم العربي..

وكانت معركة التعريب في تونس والمغرب، تمر بمحنة قاسية وسط تأكيدات بالفشل من أعداء العرب والعروبة.. وراية الوحدة العربية ترتفع خفَّاقة وسط أعاصير وعواصف من دعاة التشكيك... في قدرة العرب على الوحدة والبعث الحضاري. تشكيك، حجته الكبرى، طعن تاريخنا والافتئات؛ فالذين لا تاريخ لهم لا مستقبل أمامهم.

وصدرت الطبعة الثالثة من كتاب «البلاغة عليه العصرية واللغة العربية»، وهو بحق كما يصفه ناشروه «كفاح هادف»، وهو كتاب يصدر عن وعي كامل بما يريد. يقول مؤلفه في التمهيد: «إن أعظم المؤسسات في أية أمة هي لغتها»، ولا يريد الكتاب أقل من تصفية هذه المؤسسة أو بيعها للمساهمين الأجانب.

وحتى لا نتهم بالتجني نستعرض إصلاحات «سلامة موسى» المقترحة للغة العربية:

  1. إلغاء الفصحى واستبدال العامية بها.
  2. إلغاء الإعراب وقواعد النحو.
  3. إدخال الألفاظ الأجنبية ورفض أي محاولة للتعريب.
  4. إلغاء الحروف العربية واستخدام الحروف اللاتينية كمقدمة لإلغاء اللفظ العربي أصلًا؛ لأن «المصدر اللاتيني أو الإغريقي يمكن من استخدام الزوائد والأصول والمقاطع المشتقة من اللغتين الإغريقية واللاتينية فنخلق المعنى الجديد من الكلمة القديمة».

ولا يعقل أن سلامة موسى كان يقصد مثلًا لكلمة صنع العربية، حتى ولو إضافة ER مثلًا لكلمة صنع العربية، حتى ولو كتبها بحروف لاتينية، بل كان يهدف إلى الفعل اللاتيني نفسه.

أعنف حملة ضد اللغة العربية 

وحتى تتم تصفية «مؤسسة» اللغة العربية كالَّ سلامة موسى أعنف حملة ضد اللغة العربية، ومن خلفها العرب وتاريخ العرب والحضارة العربية.. فاللغة العربية يقول عنها سلامة موسى:

«هذه اللغة لا ترضى رجلًا مثقفًا في العصر الحاضر؛ إذ هي لا تخدم الأمة ولا ترقيها؛ لأنها تعجز عن نقل مائة علم من العلوم التي تصوغ المستقبل».

«حروفنا الناقصة التي لا تخدمنا الخدمة اللازمة في عصرنا».

«لغتنا شاذة تحتاج إلى إجراء شاذ».

«لن يمكن التأليف العلمي باللغة العربية بحروفها الحاضرة».

«لأن لغتنا العربية بوضعها الحاضر واعتمادها على الحروف العربية لا يمكن أن تؤدي هذه الخدمة».

«ولغتنا خرساء (والخرس هنا أوضح وأخطر) من حيث إننا جعلناها مثل لغة الكهان جامدة لا تتغير. وكانت نتيجة ذلك أن في العالم مائة وعشرين علمًا وفنًا لا تنطق لغتنا العربية إلا بنحو عشرة أو عشرين منها، ولكنها خرساء في سائرها».

«الجهل لنحو مائة علم وفن لا يمكن أن نعرفها إلا إذا تركنا لغتنا ونطقنا بلغة أخرى».

وبالطبع هو لا يكلف نفسه عناء إحصاء هذه العلوم والفنون التي تعجز لغتنا العربية عن النطق بها، ونحن أيضًا لا يعنينا ذلك؛ لأننا نعرف أنها كلمات تقال للتهويش.. لغتنا قادرة على استيعاب كل العلوم والفنون.

وفي ١٩٥٨، عام الطبعة الثالثة، صدر قرار تعريب التدريس في كليات الطب والهندسة والزراعة، واليوم ونحن نستقبل الطبعة الرابعة نستطيع أن نقول إن التجربة قد نجحت في مصر، وتشق العزيمة الصادقة طريقها في الجزائر أيضًا.

وإذا كانت بعض العلوم تُدرَّس بلغات أجنبية فلأن مراجعها أجنبية بسبب تخلفنا العلمي والصناعي، لا تخلفنا اللغوي... فما من منصف يقول إن لغتنا متخلفة عن اليابانية أو الصينية، اللتين لم تصلا بعد إلى اكتشاف الحروف، ومع ذلك فقد تعلمت اليابان كل المعارف والعلوم، والصين صنعت قنبلة ذرية وفي طريقها إلى الهيدروجينية دون أن ترطن إحداهما بغير لغة الآباء.

بل حتى إسرائيل التي يشيد بها كتاب سلامة موسى في طبعاته الأربع، فيقول عنها: «تجاورنا أمة علمية قد أنشأت مجتمعًا علميًا».

أولًا: إسرائيل لم تُنشئ مجتمعًا علميًا؛ لأن وجودها ذاته يتنافى مع العلم، فضلًا عن وصفها بأمة علمية.. كأن هناك أممًا علمية وأخرى غيبية.

ثانيًا: هل استخدمت إسرائيل أَسَرًا لغة لاتينية متمدينة كما يدعونا سلامة موسى.. أم أخرجت من الحفريات حقًا لغة تدعوها قومية علمت وتعلمت بها؟! لماذا لم تفرض إسرائيل على هذا الخليط من سكان بابل لغة عصرية كالإنجليزية مثلًا.. وقد كان ذلك سهلًا ميسورًا؟! لماذا اختارت بعث العبرية وفرضتها..؟! لأن إسرائيل تعرف خطورة اللسان القومي، وسلامة موسى أيضًا يعرف.

وتركيا التي يشيد بها — رغم غرابة مدح تركيا من متهم بالاشتراكية، ومتى يمدحها؟ في سنوات ٤٥، ٥٣، ٥٨، ٦٤ — وتركيا عبر هذه السنوات كانت مثالًا للتخلف والانهيار وفقدان الشخصية والتبعية؛ بل كانت عدوًا رئيسيًا للعرب وللجمهورية العربية المتحدة بالذات.

ولكن سلامة موسى يقول: «الواقع أن اقتراح الخط اللاتيني هو وثبة إلى المستقبل، لو أننا عملنا به لاستطعنا أن ننقل مصر إلى مقام تركيا، التي أغلق عليها هذا الخط أبواب ماضيها وفتح لها أبواب مستقبلها».

بئس والله ما اختار سلامة موسى لقومه! أنحن نتطلع إلى «مقام تركيا»!؟ وماذا أعجبه في تركيا: الأحلاف والإفلاس؟ ما العلوم التي برزت فيها تركيا منذ أن أغلقت أبواب ماضيها؟ فليذكر لنا خلفاء سلامة موسى اسم عالمٍ تركيٍّ، أو مفخرة للأكاديمية التركية... تُغري بأن نحذو حذوها؛ فقد فات سلامة موسى أن يذكر ذلك.

حقًا إن تركيا بنبذ الحروف العربية وأشياء أخرى قد أغلقت أبواب ماضيها... يعرفها سلامة موسى، يعرفه، ولكنها لم تفتح أبدًا أبواب مستقبلها؛ فلا مستقبل للغربان يحاكون مشية العصفور.. فضلًا عن عصفور يقلد مشية الغربان..

ولا يقول سلامة موسى إنه لم تكن هناك حروف تركية؛ لأنها لغة غير مكتوبة، بل كانت تكتب بحروف عربية، استبدلت اللاتينية بها. ما حدث أيضًا في الجمهوريات الإسلامية في الاتحاد السوفييتي، بعد مؤتمر «باكو» ١٩٢٦، الذي يعلق الأستاذ مدثر عبد الرحيم على قراره بإلغاء الحروف العربية بأنه كان يهدف إلى ربط تلك الولايات بجهاز الدولة وقطع الصلة بين رعاياهم الترك وبين تراثهم القومي والإسلامي.

فما من لغة مكتوبة قد استبدلت بحروفها الحروف اللاتينية.. وأيضًا استطاعت الحروف العربية أن تعبر لا عن لسانها، بل عن أكثر من عشر لغات، ومع ذلك يتهمها بالتخلف والقصور والعجز.

ثم تأمل تأثير هذه الآراء على معركة التعريب في المغرب العربي مثلًا: أي حجج تقدم لأعداء التعريب.. وأي خزي يحس به أنصار التعريب.. وهذه قاهرة الأزهر، قاهرة المجمع اللغوي، قاهرة ناصر، تنشر مثل هذه الآراء في صيغة الحقائق، بل تسميها «تراث كفاح هادف»..؟!

وأمامي الآن في مجلة «حوار» (عدد سبتمبر / أكتوبر ١٩٦٣) مقالة لمن يدعى «ويليام زارتان»، أستاذ أمريكي، يتحدث عن مشاكل التعريب في المغرب، يكاد يردد حجج سلامة موسى بحروفها.

يقول الأمريكي في مجلة حوار: «وتركيب لغة القرآن يتجاوز معرفة غالبية السكان وإدراكهم، فهي تكتب دون أحرف صوتية، وأحرف تبين لفظ أواخر؛ لذلك لا تلفظ كما تكتب، ولا يمكن الكلام قراءتها دون معرفة أصل الكلمة واشتقاقاتها، وما إذا كانت معربة أو غير معربة، ومتصرفة أم جامدة حسب ما تقتضيه قواعد اللغة. هناك مثل عربي يقول إن المرء في العربية يتعلم ليقرأ ولا يقرأ ليتعلم».

«والكلمات لا يمكن قراءتها بصوت مرتفع». وأخيرًا — يقول الأمريكي في مجلة حوار الصهيونية — «إن اللغة العربية كلغة حديثة قد جمدها التمسك بالماضي، فهي تعاني من غزارة مفرداتها المهجورة ومن فقرها علميًا، وهي تعج بمفردات ومعانٍ عن مظاهر الحياة البدوية بينما تفتقر افتقارًا تامًا إلى أسماء حاجات الحياة الحديثة ومفاهيمها».

نفس الكلمات، ومن أضرار اللغة «وخاصة في لغتنا العربية» هذه المترادفات التي تبعثر المعاني وتبعدنا عن الإحكام في التعبير.. الكلمات سلامة موسى..

يخيل للمرء بعد أن يقرأ سلامة موسى وزارتان.. أننا أمة عجماء.. بل يدهش كيف أننا استطعنا أن نعيش عبر هذه القرون بمثل هذا اللسان الأخرس!!

وأذكر أنني كنت في الصومال سنة ١٩٦٠، وكانت المعركة الوطنية هناك تدور حول اختيار حروف لكتابة اللغة الصومالية: الحروف العربية أم اللاتينية؛ فلم يكن لأعداء الحروف العربية في مواجهة الجماهير من حجة، إلا ما كتبه سلامة موسى وشيعته في تسفيه العربية وحروفها. رحم الله شهيدنا في الصومال كمال الدين صلاح.. وغفر لسلامة موسى ما ارتكب في حق قومه.

واللغة العربية عند سلامة موسى هي أُسُّ البلاء، والمسؤولة عن كل الرزايا: «أن تأخرنا اللغوي في مصر هو سبب من أعظم الأسباب لتأخرنا الاجتماعي».

أي تفسير علمي يقدمه المتهم بالاشتراكية والعلمية، للجماهير المصرية في ١٩٤٥!! إذن ليس الاستعمار ولا الإقطاع ولا النظام الرجعي هم سر تخلفنا، بل اللغة العربية! ولا داعي لإجلاء المحتلين وإسقاط النظام الرجعي؛ لساننا بغير لغة القرآن لنتخلص من التخلف!

ويمضي سلامة موسى في تفسيره اللغوي للتاريخ فيقول: «سيادة البريطانيين على الهنود، أو المتمدنين على المتوحشين (!!)، إلى حد ما سيادة لغوية!».

هل المحتل هو المتمدن، والشعب المكافح من أجل حريته متوحش؟! ومن الذي قال إن إنجلترا فتحت الهند بالقواميس!!

إذن؛ فالتركية أعظم من اللاتينية والإغريقية لأنها أوصلت الأتراك إلى أسوار ڤيينا، والروسية أفضل من الألمانية؛ لأن روسيا تحتل قطعة من ألمانيا، والهندية أفضل من البرتغالية، والعربية تتفوق على الإنجليزية والفرنسية لأننا هزمناهم في بورسعيد.

أهذه آراء تستحق أن تُنشر فضلًا عن أن تُناقش؟! وجيتة قال ما قاله لأنه كان يتكلم الألمانية.

يقول سلامة موسى: «لو أن جيتة وُلد بين زنوج إفريقيا لما استطاع أن ينتج الثمرات الزكية التي نقطفها من مؤلفاته؛ لأن اللغة القبلية لم تكن عندئذٍ لتسعفه بالكلمات التي تؤدي معانيه، وأهل الصعيد تنتشر بينهم جرائم الثأر؛ لأنهم يستخدمون كلمات الثأر والعرض والدم في حديثهم أكثر من أهل بحري».

وبصرف النظر عن لهجة الاحتقار للإفريقيين، فهذا قلب للحقائق؛ إذ لو أن المعاني موجودة لَنُحِتَتْ ألفاظها.. وليس من يقول بأننا نطلب الطعام لأننا نعرف اسمه، أو أن الجنس ينشأ عند البالغين بفعل قراءة القصص الجنسية! فالأحاسيس والمعاني توجد ثم نسميها؛ فالابن لا يولد لأننا سميناه، بل الأعقل أننا نسميه لأننا ولدناه، وإلا كنا كتلك الحكومات الرجعية التي كانت تصدر تعليمات بحذف كلمة حرية ودستور من التداول حتى تختفي المطالبة بهما! أو كما يتجنب العامة ذكر ألفاظ سيئة حتى لا تلحقهم شرور مسمياتها!

هذا هو موقف الكتاب من اللغة العربية، وهو كما ترى لا يستند إلى أي أساس علمي، على أنه حاول تخريب كفاحنا القومي عبر سنوات حاسمة، وهو اليوم طعنة في ظهر الحركة القومية على الأقل، في المغرب العربي حيث تدور المعركة حول اللسان العربي، فلم يبق للمستعمرين من أمل في المغرب العربي إلا أن يبقوه في سجن اللغة الفرنسية، فتتقطع به الأسباب عن إخوته في المشرق..

ولكن الكتاب لا يختص بطعناته لسان العرب وحده، بل يمتد بهجومه إلى الوجود العربي ذاته، والحضارة العربية، والمجتمع العربي.. ولنا عودة.

# اليوم العالمي للغة العربية

معرفة